فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الضحى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{والضحى}
تقدم في سورة {وَالشَّمْسِ وضحاها} تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً.
{وَالليل إِذَا سجى} أي: اشتد ظلامه. وأصله من التسجية وهي التغطية، لستره بظلمته. كما في آية: {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} [النبأ: 10]، {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} جواب القسم، أي: ما تركك وما قطعك قطع المودّع.
قال الشهاب في (العناية): فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا، وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزُّ مفارقته، كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودَّعت يوم وَدَّعوا ** فلم أَدْر أي: الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ

وقال في (شرح الشفاء): الوداع له معنيان في اللغة: الترك وتشييع المسافر، فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركهُ أصلاً، فإنه معهُ أينما كان. وإنما الترك لو تصور في جانبه، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع؛ فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عودهُ، وإليه أشار الأرجاني بقوله:
إذا رأيت الودَاعَ فاصبرْ ** ولا يُهمنَّك البعادُ

وانتظر العَوْدَ عن قريبٍ ** فإن قلب الوداع عادُوا

فقوله: {وَمَا قلى} مؤكد له.
قال: وهذا لم أر مَن ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه، لا لضرره بهجره، أو لنفي القيد والمقيد. وقرئ: {مَا وَدَعَكَ} بالتخفيف. وورد في الحديث: «شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه». وورد في الشعر، كقوله:
فَكَانَ مَا قدَّموا لأنْفُسِهمْ ** أَعْظَمَ نفعاً من الذي وَدَعُوا

ولهذا قال في (المصباح) بهذا: اعلم أن قولهم في علم التصريف: أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ، وجعله استعارة من الوديعة تعسّف. انتهى.
وكذا قال في (المستوفى): إنه كله ورد في كلام العرب، ولا عبرة بكلام النحاة فيه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان نادرا. انتهى.
وقوله تعالى: {وَمَا قلى} أي: وما أبغضك. والقالي: المبغض. يعني ما هجرك عن بغض.
قال الشهاب: وحذف مفعول {قلى} اختصاراً للعلم به، وليجري على نهج الفواصل التي بعده، أو لئلا يخاطبهُ بما يدل على البغض.
تنبيه:
روى ابن جرير: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فعُيِّر بذلك؛ فقال المشركون: ودعهُ ربُّهُ وقلاهُ؛ فأنزل اللهُ هذه الآية.
وفي رواية: أن قائل ذلك امرأة أبي لهب، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها. ولا تنافي، لاحتمال صدوره من الجميع، إلا أن قول المشركين وقول خديجة- أن صح توجع وتحزن- وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه. فقال: «لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني». فجاء جبريل بسورة {والضحى}.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} قال ابن جرير: أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها.
وقال القاضي: أو: لنهاية أمرك خير من بدايته. فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.
{ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عِدةٌ كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالجملة فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين، حيث أجملهُ ووكلهُ إلى رضاهُ وهذا غاية الإحسان والإكرام.
تنبيه:
قال في (المواهب اللدنية): وأما ما يغترُّ به الجهال من أنه «لا يرضى واحدًا من أمته في النار»، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يُدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريراً للجهال وتزييناً لموارد الضلال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى}
قال أبو السعود: تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت من فنون النعماء العظام، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود فيطمئن قلبهُ وينشرح صدره. والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه، كأنه قيل: قد وجدك إلخ. والوجود بمعنى العلم.
روي «أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب وعطَّفه الله عليه فأحسن تربيته» وذلك إيواؤه {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى} أي: غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك أماماً له، كما في آية: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].
قال الشهاب: فالضلال مستعار من: ضل في طريقه، إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصلهُ للعلوم النافعة، من طريق الاكتساب.
{وَوَجَدَكَ عائلا} أي: فقيراً {فأغنى} أي: فأغناك بمال خديجة الذي وهبتهُ إياهُ. أو بما حصل لك من ربح التجارة.
{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر} فلا تغلبهُ على ماله فتذهب بحقه، استعطافاً منك له.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تنهر} قال ابن جرير: أي: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته، أي: لأن للسائل حقاً، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24- 25].
وقد ذهب الحسن- فيما نقله الرازي- إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم، فيكون في مقابلة قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضالا فهدى} وهكذا قال ابن كثير: أي: وكما كنت {ضالا} فهداك الله، {فلا تنهر} السائل في العلم المسترشد.
قال الإمام: ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم، فمنهم أهل الكتاب الممارون، ومنهم الأعراب الجفاة. ومنه من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء، فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبهُ على التوليّ عن الأعمى السائل، في سورة عبس. انتهى.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث} أي: بشكرها وإظهار آثارها فيرغب فيما لديه منها، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها، حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.
قال الإمام: من عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل. أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفُقراء وإعانة المحتاجين. فهذا من قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث} أي: إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفُقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف منه أنه كان «ينفق ما عنده ويبيت طاوياً». وقد يقال: أن المراد من النعمة النبوة، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ عائلا} فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة، لكانت مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ ضالا} وقد علمت الحق في مقابله. والله أعلم. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الضحى:
{والضحى (1) وَالليل إِذَا سجى (2)}.
تعريف بسورة الضحى:
هذه السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدها، وظلالها وإيقاعها، لمسة من حنان. ونسمة من رحمة، وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين.
إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين. كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع.
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عليه جبريل- عليه السلام- فقال المشركون: ودع محمدا ربه! فأنزل الله تعالى هذه السورة..
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق. وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب. وكان صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة. ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهدى من طغاة المشركين.
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده. بلا زاد. وبلا ري. وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود. وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه.. عندئذ نزلت هذه السورة. نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى (4) ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى (6) وَوَجَدَكَ ضالا فهدى (7) وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى (8) فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تنهر (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}
{ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى}..
وما تركك ربك من قبل أبدا، وما قلاك من قبل قط، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه..
{ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى}..
ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مس هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا. لا.. {ما ودعك ربك وما قلى}.. وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا.. {وللآخرة خير لك من الأولى}.. وهناك ما هو أكثر وأوفى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}!
ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه.. الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع.. وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة: {والضحى والليل إذا سجى}..
لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف، والرحمة الوديعة، والرضى الشامل، والشجى الشفيف: {ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى}.. {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى}.. ذلك الحنان. وتلك الرحمة. وذاك الرضى. وهذا الشجى: تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة، الرقيق اللفظ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير. الموسيقى الرتيبة الحركات، الوئيدة الخطوات، الرقيقة الأصداء، الشجية الإيقاع.. فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف، ولهذه الرحمة الوديعة، ولهذا الرضى الشامل، ولهذا الشجي الشفيف، جعل الإطار من الضحى الرائق، ومن الليل الساجي. أصفى آنين من آونة الليل والنهار. وأشف آنين تسري فيهما التأملات. وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود. وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء. وصورهما في اللفظ المناسب. فالليل هو (الليل إذا سجى)، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه. الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف، والتأمل الوديع. كجو اليتم والعيلة. ثم ينكشف ويجلي مع الضحى الرائق الصافي.. فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار. ويتم التناسق والإتساق.
إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة. صنعة الله التي لا تماثلها صنعة، ولا يتلبس بها تقليد!
{والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى}..
يقسم الله سبحانه- بهذين الآنين الرائقين الموحيين. فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس. ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي، المتعاطف مع كل حي. فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود، غير موحش ولا غريب فيه فريد.. وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه. فظل الأنس هو المراد مده. وكأنما يوحي الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منذ مطلع السورة، أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود، وأنه من ثم غير مجفو فيه ولا فريد!
وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر: {ما ودعك ربك وما قلى}.. ما تركك ربك ولا جافاك- كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك.. وهو {ربك} وأنت عبده المنسوب إليه، المضاف إلى ربوبيته، وهو راعيك وكافلك..
وما غاض معين فضله وفيض عطائه. فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيرا مما يعطيك منها في الدنيا: {وللآخرة خير لك من الأولى}.. فهو الخير أولا وأخيرا..
وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك، وإزاحة العقبات من طريقك، وغلبة منهجك، وظهور حقك.. وهي الأمور التي كانت تشغل باله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد.. والشماتة.. {ولسوف يعطيك ربك فترضى}..
ويمضي سياق السورة يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق. ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به، ومودته له، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي. وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع:
{ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا}.. انظر في واقع حالك، وماضي حياتك.. هل ودعك ربك وهل قلاك- حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟- ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟
لقد ولدت يتيما فآواك إليه، وعطف عليك القلوب حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك!
ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة رضي الله عنها عن أن تحس الفقر، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء!
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها. ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا. لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا.. ثم هداك الله بالأمر الذي أوحي به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به.
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى، التي لا تعدلها منة؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعانيه في هذه الفترة، من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب. فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه!
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة.. يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم، وإلى كفاية كل سائل، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه، وفي أولها: الهداية إلى هذا الدين:
{فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث}.. وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله، وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة، كانت- كما ذكرنا مرارا- من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة، التي لا ترعىحق ضعيف، غير قادر على حماية حقه بسيفه! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل، والتحرج والتقوى، والوقوف عند حدود الله، الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعفاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق.
وأما التحدث بنعمة الله- وبخاصة نعمة الهدى والإيمان- فهو صورة من صور الشكر للمنعم. يكملها البر بعباده، وهو المظهر العملي للشكر، والحديث الصامت النافع الكريم.. اهـ.